المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة أبكتني فهل ستبكيكم؟؟!!


النور
04 Sep 2007, 07:41
أنا يا ماما من زمان أود الكتابة إليك ، أتعلمين لماذا؟؟ لأنني لم أحفظ أي وصية من وصاياك ، كنت أعدك دائما.. لكنني عند التطبيق لا آبه .. أوصيتني عن التدخين وقلت : " والله سيهري قلبك .. وكانت في عينك دمعة ".. " والله وجهك أكثر الأولاد بياضا : لا تجعل الدخان يغير لونه " هذه يا ماما أول وصاياك لي : أتدرين لماذا أبكي الآن ؟؟لأن وجهي تغير بالفعل .. يميل وجهي إلى الصفرة الدائمة والبياض الذي أوصيتني به خيرا راح غطس وراء الصفرة ، أتدرين ما الذي يواصل سيل دموعي الآن : أدخن أربعين سيجارة في اليوم منذ سنتين منذ افترقنا يا ماما أوغل في عصيانك.

عندما ودعتك ذهبت إلى دبي كنت مقتنعا وواثقا بأنني أودعك الوداع الأخير لن أراك مرة أخرى ،كنت أجرجر حقائبي .. حتى أوصلتهن الشارع الرئيسي ، وأنت خلفي صوتك يتدحرج : " الله يحنن عليك ، الله يرضى عليك .. الله .. الل .." وكان الله من فوق السماوات العلا .. ينظر في وجوهنا ويبتسم .. يبتسم من شعب لم ينصفه العالم : الذي اخترع الحواسيب والوجبات السريعة والموبايلات البيبي .. وكنت ممعناً في فراقك أنظر هناك إلى وهم اسمه مستقبلي .. إلى أبراج انكسرت رقبتي وأنا أتفرج عليها من الأسفل .. وأنت كنت خلفي .. وصوتك والله يتهدج .. ومن نافذة الحافلة في الكرسي الأخير.. تمدين صوب خدي شفتيك ..أول مرة يا ماما أتذوق طعم دمعك ... تنزلق دمعتك تحت لساني...طعمها مالح ..ثم بعد أن فرغت من تقبيلي .. سكنت في دمي..

مديرتي يا ماما هي بعمرك تقريبا ، لكنها لا تمدّ شفتيها وتقبل مثلك ..لا تحنو.. تعتبر الغرباء عمال تحت قدميها ..أول مرة يا ماما قالت لي : راقب عمال النظافة يا محمود وقلت آمنا .. لا بأس نراقبهم ..وش عليه ..
وهي " المرأة التي في سنك ولا تشبهك " تقف على نافذة مكتبها وتضحك من الغريب الذي تحول إلى عامل نظافة :
تقول : أنت محتاج إلى دورة تعليم نظافة وتضحك .. تضحك مثل طفلة ..

وشهادة الماجستير ماثلة أمامي ..تحدق في وتلومني .. ثم بعد أقل من أسبوع وجدت نفسي عاطلا عن العمل لأنني رفضت مساعدة عمال النظافة في تنزيل حمولة من الورق ..
ودرت في البلاد يا أمي .. أبحث لي عن عمل : الأصدقاء يخذلون في الغربة ، هذا علي : احتملته يوم كان بلا عمل في عمان .. ومنحته غرفتي الوحيدة وقاسمته سجائري.. ورسبت في نصف المواد في تلك السنة كي أرضيه .. ها هو اليوم مدير تحرير في إحدى كبريات الصحف : ومن غبائي أجيء إليه أحط أمامه مثل كومة رماد : ينظر إلى وجهي بحياء : " في الحقيقة والله .. إنك عزيز وعزيزوعزيز .. بس ..." أنا دوما يا ماما غبي لأني لم أرد على وصاياك ..

أذهب إلى عجمان أبحث عن عمل ، فتمسكني شرطة الجوازات : أين إقامتك أين أوراقك ..أين ..أين ..
وأودع يا ماما في سجن عجمان المركزي .. مع أصحاب السوابق ومدمني المخدرات.. ..ألم أقل لك يا ماما عن المرأة التي اشتغلت عندها لا تشبهك .. فوجئت في السجن بأنها كانت مقدمة شكوى وتدعي أني مملوكها الهارب من العمل ..

أجلس في زنزانتي في عنبر 19 وأحاول أن لا أخالط أحدا .. سرقوا حتى حذائي في السجن ..سرقوا كل شيء ..
يا لفرحتك بي : أراجع طبيباً نفسياً منذ عامين ، ولا أتحسن ، في أقاصي النوم تأتيني لذعة مثل لذعة الكهرباء ، تجعلني أخب على طولي ، وأمسك بجدار الغرفة وأرتجف أكثر من نصف ساعة ..
الطبيب نظام ينظر في عيني ، ويبتسم ، لا يلومني على ترك الدواء ، لا يسألني : لماذا لا ترد على نصائحي ؟؟ يبتسم برفق ويقول : يجب أن تعود إلى غزة ، وأنا والله لا أريد أن أعود إلى غزة ببساطة أنا لست من غزة وأنا لا أعرف غزة ، وغزة ليست بلدي ..
هذا الطبيب ، الذي أراه يصرخ في وجوه المرضى الذين لا يأبهون بنصائحه .. لا يصرخ في وجهي يكلم المرضى الباقين بخشونة ، وينظر في عيني ويبتسم : هل عرف أني عشت بلا أب رحيم ، فقرر أن يكون أبي ، ينظر في وجهي ويبتسم : " سيبك من الدكتوراة وغيرها ، سيبك من الأردن ، عد إلى غزة والله سوف تستريح " لعله لا يدري أني أجهل الطريق إلى غزة ولا يعرف أني لاجيء أحمل الجنسية الأردنية
وأعلم يا أمي ، حين يشتد الخطب ويداهمني البكاء : لا أعرف أكتب .

احتملت سفاهات أبي وأذاه ، احتملت مكائد الزمان ، نسيت جمالك .. سيدة ركضت خلف الأغنام والحمير حتى تشققت قدماها .
زرعت حقول وجمعت ثمار .. ونسيت حالها في خضم التعب ... الآن تجري خلفي وتمد شفتيها من نافذة الحافلة وتقبلني !!

حين سجنت في عجمان ، بعد شهرين قدموا ملفي إلى القاضي ، اسمه " نومان " NO.MAN لن أنسى اسمه ما حييت .. وجدته يضع على كتفيه عباءة سوداء ويبتسم ابتسامة صفراء :
قووول : مخطي .
بس ، قووول : مخطي .
أنا يا سيدي لم أخطيء ، هذه هي الحقيقة .
لأ ..لأ ..يغضب نومان : قوووول : مخطي .. عوووذي بالله من وجهك : قووول مخطي لكي نحاكمك ،ما فيه محاكمة إلا لما تقول مخطي .. والكاتب المصري بجانبه ، يرمقني بخجل ويهز رأسه : أيوه : أووول ..أووول يا رآآآجل أووول ..وخلّصنا
ولا أقول ، أقول : كما قال يوسف غليه السلام : السجن أحب إلي مما تدعونني إليه "
يعيدونني إلى السجن، أشعث وأغبر ورأس محلوق حلاقة مشوهة ،أربعة شهور في زنزانة معتمة بغير ذنب ، ثمنها : أربعة حروف : مذنب ..


وأنا أقلب جريدة الرأي ، ألمح اسمك مع " الوفيات " أتسمر في مكاني ، وأنظر في **ائن المقهى ،
أذهب وراء الشمعة في الظلمة : أسند ذراعي عليها : وأفتح فمي على كبره وأبكي

سيدة جميلة أنت يا أمي .. طويلة مثل نخلة وجهك دائري لكنه وجه نحيل شفتيك .. عيناك : عندما تنغرسان في عيني : لا أعرف كيف أكذب .. إن لعي*** قوة ساندت ضعفك طوال السنين
" وداعتك روحك ، وداعتك روحك .. روحك
هاهي روحي معي ، أين روحك أنت يا أمي ؟؟
وأنا الذي خلتك قوية ، خلت روحك أقوى من روحي .. أقوى من الموت ، توصينني بروحي خيرا ..وتتركين روحك تذوي بعيدا عني لماذا لم توصي نفسك ؟؟

كنت أتمنى ألا يجيء خبر وفاتك في مقهى ..قليل عليك.. والله ومحرج .. ومؤلم لي وكثير علي .. أنا الذي لم أسمع كلامك ..
كنت أتمنى أن أكون قريبا من حسدك : أحضنه بقوة إلى قلبي : أهزه أقول له : يا جسد أمي أنا أحبك
وأقول له : أنت جسد أمي الطاهر ، ما بخلت علي يوما ، كل ما تملك ولا تملك قدمته لي : وعندما عزمت على الرحيل : رافقتني أيها الجسد إلى الحافلة كي أحس بطعم دمعك وأمضي ..
ثم – هكذا أحلم – أصطف مع بقية أخوتي ويقبلني المعزون ويربتون على كتفي ويقولون " شدّ حالك .. وأقول لهم : " شكر الله سعيكم وسعي أبي سعيكم "
موتك ، حدث ، لم يكن كارثة بالنسبة لي .. لا لا والله كان انهيار في طبقات قلبي ، أصبحت بعده أتأمل الأمهات من بعيد وأقول : " لعلهن مثل أمي " وحين أقترب يشحن بجلابيبهن بعيدا ، يخجلن ولا يدرين أني فقط أحب أن أتأملهن وأمشي إلى حال سبيلي ..
أنظر للأصدقاء الذين أمهاتهم أحياء فأغبطهم : أحدثهم بالذي أشعر به فيبتسمون ويقولون : " إن جاء الأجل لا مناص منه.. وإن استطعت يا شاطر : رد المووووت "
يصبح الأصدقاء حكماء هذا الزمان دفعة واحدة.. ووحدي أراجع صفحاتي معك ..



كانوا يطفئون الكهرباء في التاسعة مساء ، يسبق الانطفاء صرخة من أحد الجنود : إستعدآآآآآد للنووووم واحد اثنين ...ثلا ..ثه
وأحس أنه ينشدها مستمتعا .. ينشدها بمهارة رفيعة : حتى والسيجارة تضيء في فمه . ولا ضوء حتى شمعة في الوجود ..يتحول الوجود إلى نمر أسود بلا فم يضيء العتمة ..بلا فم يبتلعنا ويخلصنا من عذابنا ..
لن أقول لك كنت شجاعا غير آبه .. لا والله : كنت في كل ليلة أضع طرف " البطانية " القذرة في فمي أبكي .. أظل أبكي وأتذكرك .. أتذكرك وأنت خلفي ماشية وانا أجرجر حقائبي .. "روحك .. روحك .. وداعتك" .. أتذكّرك كما لو أنت كل أمهات العالم..

وتتركني روحك من غير روح .. تتركني تائهاً وأعمي ومشلوع القلب أنشد لثغاتي وحدي وأتحسس طعم الأشياء .. ولا شيء .. لا شيء سوى طعمك يبعثرني وأتبعثر فيه ..

وبعدك أشعر بامرأة قريبة مني كثيراً .. المشكلة يا أمي أني حسبتها أنت : آخر رسائلها لي كانت : " كف عن الكتابة لي ، اشغل نفسك بأي شيء غير الكتابة لي ، أنا لم أتصرف معك حتى الآن كما ينبغي ، لأنني لا أريد إيذاءك .. وكفى "
وكففت لأنني ببساطة عرفت أنها ليست أنت ، وأنك لست إياها .. وأنك تركتني : مثل كومة تيه ..

منقول